لقد كان مفهوم الأمة هو السائد في الصدر الأول من الإسلام وان كان لايلغي البعد الوطني والقبلي والجهوي ،ثم جاء الاستعمار وفرض (سايس بيكو) لتقسيم الأمة وتكريس الدولة القطرية التي تحمل تناقضاتها الفئوية والعرقية لتبقى قنبلة موقوتة يفجرها المستعمر متى شاء ، وظلت الأمة ونخبها تطالب بالعودة إلى الإسلام وعصوره الزاهية ،وقامت محاولات لتطبيق الشريعة هنا وهناك القصد منها أن تكون خادمة للحاكم ، وبعد كل تلك التجارب المتعثرة فهل عرفت الأمة ما تريد ؟ وهل رتبت الأولويات وسارت على السكة للوصول للهدف المنشود ؟؟
* إن تراثنا الإسلامي مليء بقيم العدالة والحرية والأمانة والصدق والوفاء بالعهد ،والنصوص مستفيضة في هذا المجال ، وللوطن والمواطَنَة مكانة خاصة في هذا التراث الإسلامي (فحب الوطن من الإيمان) " وطني لوشغلت بالخلد عنه* نازعتني إليه في الخلد نفسي" .
وخير مثال يؤصل لهذا الأمر هو (وثيقة المدينة) التي وقعها الرسول صلى الله عليه وسلم مع ممثلي كل فئات المدينة ،هذه الوثيقة التي تعتبر أول وثيقة (دستورية) عرفتها البشرية ، فهي تكرس (مبدأ المواطنة) في بلد متنوع الأعراق والفئات والأديان ، فالموقعون على هذه الوثيقة شركاء في الوطن الذي هو (يثرب) ويضمون المهاجرين والأنصارواليهودوالمشركين...وهؤلاء المواطنون على تنوعهم العرقي والديني يد على من سواهم يدافعون عن مصالحهم المشتركة وعن وطنهم الجديد (المدينة) فهم متعاونون ومتحدون ضد كل من يعتدي عليهم. هذه الوثيقة تكرس مبدأ المواطنة في الإسلام وأنه مبدأ أصيل في هذه الشريعة يعلو على كل التقسيمات الفئوية والعرقية والقبلية والعقدية ، فعلى العرب والمسلمين أن يضعوا استراتيجيه لتربية الأجيال من الروضة الى الجامعة على المواطنة حتى تكون جبلة في المواطنين ، وأن يضعوا حدا لطغيان الطائفية والفئوية (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) بما تحمل هذه الآية من معاني العدل والإحسان والأمانة والصدق.
*فالأمر بتطبيق الشريعة موجه إلى الأمة لاإلى الفرد (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)(فأقطعو أيديهما) بواو الجماعة ، وسواء كانت الدساتير في الدول الإسلامية معتمد فيها (أن الشريعة هي المصدر الأساسي أو الرئيسي للتشريع)،(أو هي مصدر أساسي من مصادرا لتشريع) لأن المعنى يختلف من عبارة الى أخرى ، لكن الأولى والأفضل للدول الإسلامية أن تقيد هذه المادة بمادة فحواها:(على ممثلي الشعب والبرلمانيين أن يسنوا ماشاؤوا من القوانين مستفيدين من تجارب الأمم الأخرى على أن لاتعارض نصا من الكتاب والسنة قطعي الدلالة والورود) ،أما الأمور الظنية والاجتهادية فلا مشاحة فيها إذا ظهرت مصلحتها، وينبغي للدول الإسلامية أن تكون لديها هيئة دستورية متخصصة تراقب القوانين التي تصدر عن البرلمان حتى لاتعارض نصا صريحا قطعيا.
*فالقيم التي تنادي بها الديمقراطيات هي قبل كل شيء قيم إسلامية كبرى كالعدل والإحسان، والشورى والحرية والأمانة...(إن الله يامر بالعدل والإحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلم تذكرون)(وأمرهم شورى بينهم)، ويمكن للقوانين أن تتباين وتختلف من دولة إسلامية الى دولة إسلامية أخرى وتكون كلها مستمدة من الشريعة ولاتنا قضها :وهذا من سعة وسماحة هذه الشريعة والفضاءات التي تتيحها في مجال الاجتهاد والقياس ومراعاة المصالح المرسلة.
إن الناظر الى خريطة الأمة العربية الإسلامية اليوم سيصاب بالإحباط وشيء من القنوط بسبب التمزق العرقي والفتن الطائفية التي يعيشها هذا الوطن ، لكن التاريخ أثبت أن الأمة لن تموت وأنها مرت بحالات عصيبة(مرحلة التتار- الصليبين- الاستعمار..) ونحن على يقين أن العاقبة للمتقين في نهاية الأمر. فلا بد من تكريس الشرعية والعدالة والحرية والأمانة والصدق في المسؤولين والسياسيين والحكام حتى يمكنهم أن يطبقوا شرع الله في أرض الله على عباد الله ، وأن يكونوا خادمين للأمة والشريعة لاأن تكون الأمة والشريعة خادمة لهم ، وسبب فشل تلك التجارب هو استخدام الأمة والشريعة لخدمة السلطة.
*لامكابرة في أهمية المواطنة في الإسلام وضرورة أن تربى الأجيال على احترامها ، وانها فوق كل انتماء عرقي أو فئوي أو قبلي ، وبالعدالة والشرعية والأمانة يستمد المسئول شرعيته أمام رعيته ، واذالم تؤسس الأنظمة والدول على الشرعية والمواطنة فستمزقها الطائفية والعرقية حتى تصبح خبرا بعد عين ، واذا كان ابن خلدون يرى أن العرب أمة لاتخضع الا لعصبية دينية ، فإن الدين اليوم يساء استخدامه في كثير من الأماكن والجماعات مع الأسف الشديد.!!
مشهد رهيب
قال الله تعالى؛ (( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ )) عند المولى الحق لا يغني إلا الحق . اللهم سلم سلم.